24 سبتمبر 2013

أوركيدا (2)



خرجت من المحل رفقة حامل الزهور, وعلى بعد خطوات كان العم مبارك فاغرا فاه داخل السيارة بعد أن غلبه النعاس ,
- طق طق طق , طرقت زجاج الباب الأمامي بحامل مفاتيحها وهي تتأمل وجه العجوزالنائم الذي لم يحرك ساكنا ,أعادت الكرة مرة أخرى بحدة كانت كفيلة بإيقاظ العم مبارك من سباته بطريقة بهلوانية جعلتها تبتسم للمرة الأولى منذ أزيد من شهر , أما الصبي فضحك بملء شدقيه وقال لا إراديا بعد أن فُتح باب السيارة :
- صح النوم  ياعم !
اكتفى السائق بالإبتسام , فارتمت خديجة داخل السيارة مشيرة إلى الصبي بوضع الباقة في الجهة الأخرى من المقعد الخلفي بعد أن سلمته عشرة دراهم.
شغل العم مبارك السيارة بروية وقبل أن ينطلق التفت إلى خديجة وأردف قائلا :
- سامحيني يا ابنتي ,  لا يخفى عليك أن النوم أصبح حليفي الأول ,
- والله إني أغبطك , أنت تعلم أني لم أذق الطعم الحقيقي للنوم منذ شهرين , كأن وجوده بقربي هو الذي كان يمدني بالسكينة, أفتقده يا عمي , أفتقده بشدة... تنهدت بعمق !
- لله ما أعطى وله ما أخد , كفاك عنادا واذهبي لزيارة الطبيب فبعض المهدئات قد تساعدك ..
- إن شاء الله , 
عاد الصمت ليكتنف المكان , فانشغل العم مبارك بالسياقة بينما وقع ناظر خديجة ,عن قصد, على باقة الأوركيد , انتزعت منها زهرة وقربتها إليها تستنشقها, ثم أسندت رأسها إلى الوراء وأغمضت عينيها...
وكانت حركة السيارة ورائحة الأوركيد كفيلتين بجعل الصور تتداعى أمام عينيها كشريط تلفزي , يظهرفي مقدمته ابنها الوحيد خالد وهو يرقص فرحا بعد أن أخذ منها وعدا بالحصول على أول حاسوب له بمناسبة عيد ميلاده السابع ,
- ماما , أخبرني هشام بأن أفضل الحواسيب هي Apple
- ياسلام !... وهي تضحك
- هو القائل يا أمي , وليس أنا , 
ضحك هو الآخر وطبع قبلة على خدها فحضنته وهمست في أذنه :
- سأذهب غدا لاختيار أفضل حاسوب لحبيبي الصغير , 
- أريد أن أرافقك ماما أرجوك ...
- طيب بني سنذهب معا بعد صلاة الجمعة , إذهب إلى سريرك الآن
- تصبحين على خير أمي
في اليوم الموالـــي , توجهت خديجة رفقة خالد إلى إحدى المحلات التجارية على متن سيارتها وابتاعت له حاسوبا على ذوقه ثم عرجت في طريقهما إلى البيت على محل  "طوق الياسمين " :
- سنختار زهورا تليق بك 
- طيب , وسأختارها أنا طبعا , وهو يضحك
- بالتأكيد , إنه يومك حبيبي
دخلا إلى المحل وبعد حديث قصير مع مريم , جلست خديجة على منضدة تراقب خالد وهو يتنقل من وردة إلى وردة كفراشة ملونة لينتهي أخيرا إلى زهرة ذات لون وردي أنيق وبصوت عالي قال وهو يشير إليها :
- ماما , هاته تليق بي 
- انها زهرة الأوركيد وهي فعلا تليق بك أيها الصغير , قالت مريم وهي تبتسم
- نريد باقة منها من فضلك ,
- حاضر سيدتي 
بعد أن جهزتها مريم ودفعت خديجة ثمنها , أبى خالد إلا أن يحمل باقة الأوركيد بنفسه ثم غادرا المحل باتجاه السيارة ,في الجهة الأخرى من الشارع ,عبر ممر للراجلين .
 - ماما , للأوركيد رائحتك , لقد أحببته مقدار حبي لك  , قال وهو يدني الباقة من أنفه ليجتذب رائحتها.
 انحنت تقبله ففاجأتهما معا سيارة بسرعة جنونية أردتهما أرضا فتناثرت زهرات الأوركيد جوا وتناثرت الدماء ...وبقي خالد على إثر الحادثة شهرا كاملا في العناية المركزة ليسلم الروح  بعد ذلك إلى بارئها متأثرا بإصابة على مستوى الرأس ...
- ابنتي خديجة لقد وصلنا
-حاضر , بصوت خنقته العبرات ,
كفكفت دمعها و حملت باقة الأوركيد ثم ترجلت من السيارة والألم يكاد يفجر رأسها , 
وبخطى متتثاقلة تجاوزت المدخل وهي تتمتم : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية ,
ثم بالقرب من قبر خالد وقفت وجعلت تدعوله وتبكي تارة وتحدثه تارة أخرى , وضعت باقة الأوركيد على القبر بعد أن أزالت منه الياسمينات واستدارت عائدة إلى السيارة وقد أحست ببعض من الصخرعلى صدرها قد انزاح...
- تفضل ياعمي مبارك , الياسمينات لك...باقة لمن في القبر وباقة لمن فوق الأرض
- شكرا ياابنتي
جلست في المقعد الأمامي بالقرب من السائق واستندت على الكرسي بمؤخرة رأسها , تنفست بصعوبة وقالت وقد أغمضت عينيها من شدة التعب:
- لم يعد لي أحد في هذه الدنيا ياعمي مبارك , لا أحد...
- لنا ولك الله ياابنتي , لنا ولك الله , أجاب وهو يدير مفتاح السيارة

~انتهى~

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق